وقد أمـرت الجن وكلفت كـما كلف الانسان ، فـهم مأمورون بالتوحيد و الأيمـان والطاعة والـعبادة ، وعـدم المعصيـة والبـعد عن الظلـم وعدم تعـدي حدود الله ،
فمسلمهم مسلم، ومؤمنهم مؤمن، وكافرهم كافـر ، والمطيـع منهـم لله ورسولـه، يدخل الجنة ومن أبى دخل النار سواء بسواء، مثلهم مثل الانسان والدليـل من قولـه عزوجل( وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون ). اذا هم خلـق من خلـق الله ومـن ينكرهم فانه يكفر للأدلة الكثيرة من الكتاب والسنة . وقد وجـد مـن ينكرهـم قديمـا وحديثا . ولا يضيرنا ذلك منهم . والذي يهمنا أنـهم حقيقة لاشـك فيهـا ولا مريـة
لمـا سيترتب علـى مـا سوف نسرد مـن أخبارهم وأحوالهـم، وربنا وربهم الله .
هل الجن يأكلون ويشربون :
و حيث أن مثل هذه الأمـور الغيبية في أحوال الجن الذين لا نراهم، توجب علينـا كأمـة مسلمة تؤمن بالغيب، أن نؤمن بكل المغيبات التي وردت في الجن وذلك لمـا يتصف به المؤمنون من الايمان بالغيب كما قال عز وجل وعلا شأنـه ( آلم * ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين * الذين يؤمنون بالغيـب ويقيمـون الصـلاة وممـا رزقناهم ينفقون * والذين يؤمنون بما أنزل اليك وما أنـزل من قبلك و بالأخـرة هم يوقنون * ) . وموضوع الجن أمدنا فيه رسـول الله بالخبر اليقيـن ، فاليـك هذه الأدلة الصادقة من عند الذي لا ينطق عن الهوى .
ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة ـ رضـي الله عنه ـ أن النبي صلي الله عليـه وسلم ـ أمره أن يأتيه بأحجار يستجمر بها ، وقـال له: " ولا تأتيني بعظم ولا بروثة"
ولما سأل أبو هريرة الرسول صلى الله عليه وسلـم، بعد ذلك عن سر نهيه عن العظم و الروثة ، قال:"هما من طعام الجن ، وانه أتاني وفـد نصيبين ، ونعم الجن ،فسألوني الزاد ، فدعوت الله لهم : ألا يمروا بعظم و لا روثـة الا وجدوا عليها طعاما" . وفـي صحيح مسلم عن ابن مسعود عن رسول الله صلـى الله عليه و سلم أنه قـال " أتاني داعي الجن فذهبت معه ، فقرأت عليهـم القرآن ، قـال : فانطلق بنا فأرانا آثارهـم وآثار نيرانهم ، فسألوه الزاد فقال : " لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكـم لحما، و كل بعرة علف لدوابكم" فقال النبي صلى الله عليه و سلم :" فلا تستنجوا بهما فانهما زاد اخوانكم " . و في سنن الترمذي باسناد صحيح : " لا تستنجـوا بالـروث ، ولا بالعظام ، فانه زاد اخوانكم من الجن" و قد أخبرنا الرسول صلى الله عليه و سلم ، أن الشيطان يأكل بشماله و أمرنا بمخالفته في ذلك . وقد روى مسلم في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبـي صلى الله عليه و سلم قال:" اذا أكل أحدكم فليأكل بيمينه، و اذا شرب فليشرب بيمينه، فـان الشيطان يأكل بشماله ويشـرب بشمالـه". و في مسند الامام أحمد " من أكل بشماله أكل معه الشيطان، و من شرب بشماله شرب معه الشيطان" . وكما أن الأنسان المسلم منهي عن أكل اللحم الذي لم يسمى عليه اسـم الله ، فان الجن المسلم أيضا منهي عن أن يأكل لحم الميتتة لانه لـم يذكـر اسـم الله عليهـا. لذا نستنتج أن الميتتة أكل الشيطان. و قـد استنبط ابن القيم رحمه الله من قوله تعالى( انما الخمر و الميسر و الأنصاب و الأزلام رجس مـن عمـل الشيطان) أن المسكر من شراب الشيطان، فهو يشرب من الشراب الـذي عمله أولياؤه بأمره ، وشاركهم في عمله ، فيشاركهم في شربـه ، و اثمـه و عقوبته.
أيـن يعيـش الجـن وأيـن يسكـن :
كما أسلفنا فان الجن هي أمة من الأمم ، وطالما أن الله عز وجل هو خالقهم فانه عـز وجل لم يخلق عباده عبثا، ولم يتركهم هملا، تماما ككل المخلوقات في السماء أو فـي الأرض أو في جوف البحر، فان لكل نظامه وحياته، فالسمك يعيـش في المـاء ولـو أخرج منه لمات، و الانسان والطير وكثير من الحيوان الذي يعيـش فـوق الأرض لو أدخل في البحر لماتوا جميعا، لأن الخالق سبحانه جعل لكل نظام وغذاء و حياة تختلف عن الأخر. والجن لهم حياتهم ومعاشهم و أكلهم وشربهم ،ولهم أماكن يسكنـون فيها أو مختصة بهم، وقد يشاركوننا في بعض الأماكن . فهم يسكنون في الأحراش والخرابات وبيوت الخلاء ، وفي مواضع النجاسات والمقابر. وكما يقول شيخ الاسلام ابن تيمية ، (يأوي الى كثير من هذه الأماكن التي هـي مأوى الشياطين، الشيوخ الذين تقترن بهم الشياطين، ويتواجدون في أماكن اللهو وفي الأسواق حيث يكثر تواجدهم لاضلال الناس وافسادهم،و قد أوصى الرسول صلي الله عليه وسلم أحد أصحابه قائلا :"لا تكونن ان استطعت أول من تدخل السوق ، ولا آخر من يخرج منها ، فأنها معركة الشيطـان ، وبها ينصب رايته " رواه مسلم في صحيحه ).
فالجن أيضا تعيش في منازلنا ومعنا ولكن لا نراهم، وقد يأكلون معنا ويشربون معنـامن حيث لا نراهم لاستتارهم عنا، لقوله عز وجل ( انه يراكم هـو و قبيله من حيـث لا ترونهم) . الا انه قد يتشكل في بعض الأحيان، وهذا ما سنتطرق اليه في حينه فـي قصته مـع أبي هريرة رضي الله تعالي عنه، وكي لا يلتبس هذا الأمر علـى البعض فأحيانا نذكر الجن و أحيانا أخرى نذكر الشيطان فما هي العلاقة بينهما ؟
هـل الشيطـان أصلـه مـن الجـن :
كما تقدم فقد ذكرنا أن الشيطان أبو الجن كما أن آدم أبو الانس ، والظاهر مـن سياق القرآن أن الشيطان من الجن كما في قول الله عز وجل( و اذ قلنا للملائكـة اسجـدوا لآدم فسجدوا الآ ابليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أ فتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا ) . فهذا دليـل واضح جلـي بـأن الشيطـان أو ابليـس كان من الجن ، ففسقه وعدم تنفيـذ أوامر الله وغروره، كـان سببـا فـي أبلسة الله له، كما أن شيطنتـه أبعدته مـن رحمة الله، فأختلف الناس في ذلك فمنهم
من قال بهذا ومنهم مـن قال بغيره . وذكر شيخ الاسلام ابن تيمية ، في مجمـوع الفتـاوى (انه يذهب بالقول بأن الشيطان أصل الجن كما أن آدم أبو الانس) .
تشكـل الجـن أو الشيطـان :
ان من رحمة الله سبحانه و تعالى بخلقه من الانس ، أن جعل الشيطان و حزبه مـن المردة و العفاريت و غيرهم فيما يدخل في مضمون الجن ،غير مرئيين لهـم، لأنـه سبحانه و تعالى يعلم بأن أشكالهم قبيحة ، و قد تكون أعيـن البشـر و عقولهــم لا تستوعب البشاعة التي خلق عليها الشياطين . و قد ذكر الله لنا ذلك في محكم التنـزيل واصفا قبح الشيطان بأن شبه لنا شجرة الزقوم التي تنبت من أصـل الجحيـم برؤوس الشياطين لما علم من قبح صورهم و أشكالهم ، فقال عز و جل( انهـا شجرة تخـرج في أصل الجحيم* طلعها كأنه رؤوس الشياطين *) .و قد ذكر لنا النبي صلى الله عليه و سلم " أن للشيطان قرون و أن الشمس تخرج بين قرني شيطان " و فـي البخـاري و مسلم قوله صلى الله عليه و سلم "اذا طلع حاجب الشمس فدعوا الصلاة حتى تغيب ، و لا تحينوا بصلاتكم طلوع الشمس و لاغروبها، فانها تطلع بين قرني شيطان ". ومن هذا كله يتبين لنا أن منظر الشيطان أو الجن أو ابليس بشع لنا كبشر للنظر اليـه، و لا يستطيع انسان كائن من كان من دون الرسل و الانبياء ، أن يرى الشيطان على حقيقة خلقته التي خلقه الله عليها كما يدعي البعض من الناس الجهلة و ذلك لقوله عز وجل (انه يراكم هو و قبيله من حيث لا ترونهم ) .أما الانبياء و الرسل فالله يريهم ما يريد و ما يشاء . و لكن الشيطان أو الجن يستطيع أن يتحول من خاصيته التي خلقـه الله عليها الى خاصية أخرى كأن يكون في صورة كلب أو حية أو عقـرب أو صـورة انسان أو ما الى ذلك . كما حدث في عهد النبـي صلـى الله عليـه وسلـم، اذ رأى الشيطان في أكثر من موضع و بصور لاشخاص معروفين و اشخاص غير معروفين
و قد حدث ان كان رسول الله صلى الله عليـه و سلـم يحـدث أصحـابه فيدخـل عليهم رجل غريب ، نتن الريحة ، قبيح المنظر، مقطـع الثيـاب فيخبرهـم النبـي صلى الله عليه و سلم انه الشيطان جاء يشككهم في أمر دينهم . و اليك أخي القارىء هذه القصة الطريفة التي جرت مع ابي هريرة رضي الله عنه و رواها البخاري ، قال أبو هريرة رضي الله عنه : وكلني رسول الله بحفظ زكاة رمضان ، فأتاني آت فجعل يحث من الطعام ، فأخذته ، و قلت : و الله لأرفعنك الى رسول الله صلى الله عليه و سلم ، قال: أني محتاج، و علي عيال ، و لي حاجة شديـدة، قـال: فخليـت عنـه ، فأصبحت فقال النبي صلى الله عليه و سلم" يا أبا هريرة ، ما فعل أسيرك البارحة ؟" قال: قلت: يا رسول الله شكـا حاجـة شديدة و عيـالا ، فرحمته، فخلـيت سبيلـه، قال " اما انه كذبك و سيعود "، فعرفت أنه سيعود لقول رسول الله صلـى الله عليـه وسلم انه سيعود ، فرصدته ، فجاء يحثو مـن الطعـام فأخذته ، فقلـت :لأرفعنـك الى رسول الله صلى الله عليه و سلم ، قال: دعني فاني محتـاج ،و علـي عيـال ، لا اعود ، فرحمته ، فخليت سبيله، فأصبحت ، فقال رسـول الله صلى الله عليـه و سلم :" يا أبا هريرة ، ما فعل أسيرك؟" قلت : يا رسول الله شكا حاجة شديدة و عيالا فرحمته . فخليت سبيله قال:" اما انه كذبـك و سيعود" ، فرصدته الثالثـة ، فجـاء يحثو من الطعام ، فأخذته فقلت : لأرفعنك الى رسـول الله صلى الله عليه و سلـم ، وهذا آخر ثلاث مرات أنك تزعم لا تعود ، ثم تعـود ! قال: دعنـي أعلمـك كلمات ينفعك الله بها ، قلت ما هـي؟ قـال: اذا أويـت الى فراشـك فاقـرأ آيـة الكرسـي (الله لا اله الا هو الحي القيوم) حتـى تختم الآية ، فانك لن يزال عليك من الله حافظ ، و لا يقربك شيطان حتى تصبـح ، فخليـت سبيله، فأصبحت ، فقال لي رسـول الله صلى الله عليه و سلم:" ما فعل أسيرك البارحة ؟" قلت : يا رسول الله زعم أنه يعلمني
كلمات ينفعني الله بها فخليت سبيله ، قال:" ما هي ؟ " قلت: قال لي : اذا أويـت الى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم ( الله لا اله الا هـو الحـي القيـوم )، و قال لي : لن يزال عليك من الله حافظ ، و لا يقربك شيطان حتى تصبح، و كانـوا أحرص شيئا على الخير ، قال النبي:" أما انه صدقك و هو كذوب ، تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليالي يا ابا هريرة ؟ " قال: لا ، قال: " ذاك شيطان " .